الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم **
قالوا:كل علم من العلوم المدونة لا بد فيه من أمور ثلاثة:الموضوع، والمسائل، والمبادئ. وهذا القول مبني على المسامحة، فإن حقيقة كل علم مسائله، وعد الموضوع والمبادئ من الأجزاء إنما هو لشدة اتصالهما بالمسائل التي هي المقصودة في العلم. أما الموضوع فقالوا: موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، وتوضحيه:إن كمال الإنسان بمعرفته أعيان الموجودات من تصوراتها والتصديق بأحوالها على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. ولما كانت معرفتها بخصوصها متعذرة مع عدم إفادتها كمالاً معتداً به لتغيرها وتبدلها أخذوا المفهومات الكلية الصادقة عليها ذاتية كانت أو عرضية، وبحثوا عن أحوالها من حيث انطباقها عليها ليفيد علمها بوجه كلي علماً باقياً أبد الدهر. ولما كان أحوالها متكثرة وضبطها منتشرة مختلطة متعسراً اعتبروا الأحوال الذاتية لمفهوم مفهوم وجعلوها علماً منفرداً بالتدوين، وسموا ذلك المفهوم موضوعاً لذلك العلم، لأن موضوعات مسائله راجعة إليه، فصارت كل طائفة من الأحوال المتشاركة في موضوع علماً منفرداً ممتازاً في نفسه عن طائفة أخرى (1/ 73) متشاركة في موضوع آخر، فجاءت علومهم متمايزة في أنفسها بموضوعاتها. وهذا أمر استحساني، إذ لا مانع عقلاً من أن يعد كل مسألة علماً برأسه ويفرد بالتعليم، ولا من أن تعد مسائل كثيرة غير متشاركة في موضوع واحد علماً واحداً ويفرد بالتدوين. فالامتياز الحاصل للطالب بالموضوع إنما هو للمعلومات بالأصالة، وللعلوم بالتبع، والحاصل بالتعريف. على عكس ذلك إن كان تعريفاً للعلم، وإن كان تعريفاً للمعلوم فالفرق أنه قد لا يلاحظ الموضوع. ثم إنهم عمموا الأحوال الذاتية وفسروها بما يكون محمولاً على ذلك المفهوم إما لذاته أو لجزئه الأعم أو المساوي، فإن له اختصاصاً بالشيء من حيث كونه من أحوال مقومه، أو للخارج المساوي له سواء كان شاملاً لجميع أفراد ذلك المفهوم على الإطلاق، أو مع مقابله مقابلة التضاد أو العدم والملكة دون مقابلة السلب والإيجاب، إذ المتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا اختصاص لهما بمفهوم دون مفهوم ضبطاً للانتشار بقدر الإمكان. فأثبتوا الأحوال الشاملة على الإطلاق لنفس الموضوع، والشاملة مع مقابلتها لأنواعه، واللاحقة للخارج المساوي لعرضه الذاتي. ثم إن تلك الأعراض الذاتية لها عوارض ذاتية شاملة لها على الإطلاق أو على التقابل فأثبتوا العوارض الشاملة على الإطلاق لنفس الأعراض الذاتية، والشاملة على التقابل لأنواع تلك الأعراض، وكذلك عوارض تلك العوارض. وهذه العوارض في الحقيقة قيود للأعراض المثبتة للموضوع ولأنواعه، إلا أنها لكثرة مباحثها جعلت محمولات على الأعراض. وهذا تفصيل ما قالوا: معنى البحث عن الأعراض الذاتية أن تثبت تلك الأعراض لنفس الموضوع أو لأنواعه أو لأعراضه (1/ 74) الذاتية أو لأنواعها أو لأغراض أنواعها. وبهذا يندفع ما قيل: إنه ما من علم إلا ويبحث فيه عن الأحوال المختصة بالمعادن والنباتات والحيوانات وذلك لأن المبحوث عنه في العلم الطبيعي أن الجسم ما ذو طبيعة أو، ذو نفس آلي، أو غير آلي، وهي من عوارضه الذاتية، والبحث عن الأحوال المختصة بالعناصر وبالمركبات التامة وغير التامة كلها تفصيل لهذه العوارض وقيود لها. ولاستصعاب هذا الإشكال قيل: المراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضوع العلم، كقول صاحب علم أصول الفقه: الكتاب يثبت الحكم قطعاً. أو على أنواعه كقوله: الأمر يفيد الوجوب. أو على أعراضه الذاتية كقوله: يفيد القطع. أو على أنواع أعراضه الذاتية كقوله: العام الذي خص منه يفيد الظن. وقيل: معنى قولهم يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أنه يرجع البحث فيه إليها بأن يثبت أعراضه الذاتية له، أو يثبت لنوعه ما هو عرض ذاتي لذلك النوع، أو لعرضه الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك العرض، أو يثبت لنوع العرضي الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك النوع. ولا يخفى عليك أنه يلزم دخول العلم الجزئي في العلم الكلي كعلم الكرة المتحركة في علم الكرة، وعلم الكرة في العلم الطبيعي، لأنه يبحث فيها عن العوارض الذاتية لنوع الكرة أو الجسم الطبيعي أو لعرضه الذاتي أو لنوع عرضه الذاتي. ثم اعلم أن هذا الذي ذكر من تفسير الأحوال الذاتية إنما هو على رأي المتأخرين الذاهبين إلى أن اللاحق للشيء بواسطة جزئه الأعم من أعراضه الذاتية المبحوث عنها في العلم، فإنهم ذكروا أن العرض (1/ 75) هو المحمول على الشيء الخارج عنه، وأن العرض الذاتي هو الخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته بأن يكون منتهاه الذات كلحوق إدراك الأمور الغريبة للإنسان بالقوة، أو يلحقه بواسطة جزئه الأعم كلحوق التحيز له لكونه جسما، أو المساوي كلحوق التكلم له لكونه ناطقا، أو يلحقه بواسطة أمر خارج مساو كلحوق التعجب له لإدراكه الأمور المستغربة. وأما ما يلحق الشيء بواسطة أمر خارج أخص، أو أعم مطلقا، أو من وجه أو بواسطة أمر مبائن فلا يسمى عرضا ذاتياً بل عرضاً غريباً. والتفصيل أن العوارض ستة، لأن ما يعرض الشيء إما أن يكون عروضه لذاته أو لجزئه أو لأمر خارج عنه سواء كان مساوياً له أو أعم منه أو أخص أو مبائناً، فالثلاثة الأول تسمى أعراضاً ذاتية لاستنادها إلى ذات المعروض أي لنسبتها إلى الذات نسبة قوية وهي كونها لاحقة بلا واسطة أو بواسطة لها خصوصية بالتقديم أو بالمساواة. والبواقي تسمى أعراضاً غريبة لعدم انتسابها إلى الذات نسبة قوية. وأما المتقدمون فقد ذهبوا إلى أن اللاحق بواسطة الجزء الأعم من الأعراض الغريبة التي لا يبحث عنها في ذلك العلم وعرفوا العرض الذاتي بالخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته أو لما يساويه سواء كان جزءاً لها أو خارجاً عنها. قيل: هذا هو الأولى، إذ الأعراض اللاحقة بواسطة الجزء الأعم تعم الموضوع وغيره، فلا تكون آثاراً مطلوبة له لأنها هي الأعراض المعينة المخصوصة التي تعرضه بسبب استعداده المختص، ثم في عد العارض بواسطة المباين مطلقاً من الأعراض الغريبة نظراً، إذ قد يبحث في العام الذي موضوعه الجسم الطبيعي عن الألوان مع كونها عارضة له (1/ 76) بواسطة مبانيه وهو السطح. وتحقيقه أن المقصود في كل علم مدون بيان أحوال موضوعه، أعني أحواله التي توجد فيه ولا توجد في غيره ولا يكون وجودها فيه بتوسط نوع مندرج تحته، فإن ما يوجد في غيره لا يكون من أحواله حقيقة بل هو من أحوال ما هو أعم منه. والذي يوجد فيه فقط لكنه لا يستعد لعروضه ما لم يصر نوعاً مخصوصاً من أنواعه كان من أحوال ذلك النوع حقيقة. فحق هاتين الحالين أن يبحث عنهما في علمين موضوعهما ذلك الأعم والأخص، وهذا أمر استحساني كما لا يخفى. ثم الأحوال الثابتة للموضوع على الوجه المذكور على قسمين: أحدهما: ما هو عارض له وليس عارضاً لغيره إلا بتوسطه وهو العرض الأولي. وثانيهما: ما هو عارض لشيء آخر وله تعلق بذلك الموضوع بحيث يقتضي عروضه له بتوسط ذلك الآخر الذي يجب أن لا يوجد في غير الموضوع سواء كان داخلاً فيه، أو خارجاً عنه إما مساوياً له في الصدق أو مبايناً له فيه ومساوياً في الوجود. فالصواب أن يكتفي في الخارج بمطلق المساواة سواء كانت في الصدق أو في الوجود، فإن المباين إذا قام بالموضوع مساويا له في الوجود ووجد له عارض قد عرض له حقيقة لكنه يوصف به الموضوع كان ذلك العارض من الأحوال المطلوبة في ذلك العلم لكونها ثابتة للموضوع على الوجه المذكور.واعلم أيضاً أن المطلوب في العلم بيان إنية تلك الأحوال أي: ثبوتها للموضوع سواء علم لميتها أي علة ثبوتها له أو لا. واعلم أيضاً أن المعتبر في العرض الأولي هو انتفاع الواسطة في (1/ 77) العروض دون الواسطة في الثبوت التي هي أعم. يشهد بذلك أنهم صرحوا بأن السطح من الأعراض الأولية للجسم التعليمي، مع أن ثبوته بواسطة انتهائه وانقطاعه، وكذلك الخط للسطح والنقطة للخط. وصرحوا بأن الألوان ثابتة للسطوح أولاً وبالذات، مع أن هذه الأعراض قد فاضت على محالها من المبدأ الفياض. وعلى هذا فالمعتبر فيما يقابل العرض الأولي، أعني سائر الأقسام، ثبوت الواسطة في العروض. وإن شئت الزيادة على ما ذكرنا فارجع إلى (شرح المطالع) وحواشيه وغيرها من كتب المنطق. فائدة قالوا: يجوز أن تكون الأشياء الكثيرة موضوعاً لعلم واحد، لكن لا مطلقا بل بشرط تناسبها بأن تكون مشتركة في ذاتي، كالخط والسطح والجسم التعليمي للهندسة فإنها تشارك في جنسها وهو المقدار، أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغير ذلك إذا جعلت موضوعات للطب فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية القصوى في ذلك العلم. فائدة: قالوا: الشيء الواحد لا يكون موضوعاً للعلمين. وقال صدر الشريعة: ((هذا غير ممتنع فإن الشيء الواحد له أعراض متنوعة، ففي كل علم يبحث عن بعض. منها ألا ترى أنهم جعلوا أجسام العالم وهي البسائط موضوع علم الهيئة من حيث الشكل، وموضوع علم السماء والعالم من حيث الطبيعة)) وفيه نظر (1/ 78). أما أولاً: فلأنهم لما حاولوا معرفة أحوال أعيان الموجودات وضعوا الحقائق أنواعاً وأجناساً وبحثوا عما أحاطوا به من أعراضها الذاتية، فحصلت لهم مسائل كثيرة متحدة في كونها بحثا عن أحوال ذلك الموضوع. وإن اختلفت محمولاتها فجعلوها بهذا الاعتبار علماً واحداً يفرد بالتدوين والتسمية. وجوزوا لكل أحد أن يضيف إليه ما يطلع عليه من أحوال ذلك الموضوع. فإن المعتبر في العلم هو البحث عن جميع ما تحيط به الطاقة الإنسانية من الأعراض الذاتية للموضوع. فلا معنى للعلم الواحد إلا أن يوضع بشيء أو أشياء متناسبة فيبحث عن جميع عوارضه، ولا معنى لتمايز العلوم. إلا أن هذا ينظر في أحوال شيء وذلك في أحوال شيء آخر مغاير له بالذات، أو بالاعتبار بأن يؤخذ في أحد العلمين مطلقا وفي الآخر مقيدا، أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر. وتلك الأحوال مجهولة مطلوبة، والموضوع معلوم بين الموجود وهو الصالح سببا للتمايز. وأما ثانياً: فلأنه ما من علم إلا ويشتمل موضوعه على أعراض ذاتية متنوعة، فلكل أحد أن يجعله علوماً متعددة، بهذا الاعتبار مثلاً يجعل البحث عن فعل المكلف من حيث الوجوب علماً ومن حيث الحرمة علما آخر إلى غير ذلك. فيكون الفقه علوماً متعددة موضوعها فعل المكلف فلا ينضبط الاتحاد والاختلاف. فائدة: قال صدر الشريعة: ((قد تذكر الحيثية في الموضوع)). وله معنيان. أحدهما: أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال: الموجود من حيث إنه موجود، أي: من هذه الجهة. وبهذا الاعتبار موضوع (1/ 79) العلم الإلهي فيبحث فيه عن الأحوال التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما. ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية أي حيثية الوجود، لأن الموضوع ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية لا ما يبحث عنه وعن أجزائه. وثانيهما: أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها، فإنه يمكن أن يكون للشيء عوارض ذاتية متنوعة، وإنما يبحث في علم من نوع منها. فالحيثية بيان لذلك النوع فيجوز أن يبحث عنها، فقولهم: موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض. وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلاً يراد به المعنى. الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض، وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد الأول لم يبحث عنها. قيل: ولقائل أن يقول: لا نسلم أنها في الأول جزء من الموضوع بل قيد لموضوعيته، بمعنى أن البحث يكون عن الأعراض التي تلحقه من تلك الحيثية. وبذلك الاعتبار وعلى هذا لو جعلنا في القسم الثاني أيضا قيدا للموضوع لا بيانا للأعراض الذاتية على ما هو ظاهر كلام القوم لم يكن البحث عنها في العلم بحثا عن أجزاء الموضوع، ولم يلزم للقوم ما لزم لصدر الشريعة - رحمه الله - من تشارك العلمين في موضوع واحد بالذات والاعتبار. وأما الإشكال بلزوم عدم كون الحيثية من الأعراض المبحوث عنها في العلم ضرورة أنها ليست مما يعرض للموضوع من جهة نفسها، وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه مثلا: ليست الصحة والمرض مما يعرض لبدن الإنسان من حيث يصح ويمرض، فالمشهور في جوابه: أن المراد من حيث إمكان الصحة والمرض، وهذا ليس من الأعراض المبحوث عنها. والتحقيق أن (1/ 80) الموضوع لما كان عبارة عن المبحوث عنه في العلم عن أعراضه الذاتية قيد بالحيثية على معنى أن البحث عن العوارض إنما يكون باعتبار الحيثية وبالنظر إليها، أي: يلاحظ في جميع المباحث هذا المعنى الكلي لا على معنى أن جميع العوارض المبحوث عنها يكون لحقوها للموضوع بواسطة هذه الحيثية البتة. وتحقيق هذه المباحث يطلب من (التوضيح) و (التلويح). وأما المسائل فهي القضايا التي يطلب بيانها في العلوم وهي في الأغلب نظريات، وقد تكون ضرورية فتورد في العلم إما لاحتياجها إلى تنبيه يزيل عنها خفاءها أو لبيان لميتها، لأن القضية قد تكون بديهية دون لميتها، ككون النار محرقة فإنه معلوم الإنية أي: الوجود مجهول اللمية كذا في (شرح المواقف) وبعض حواشي (تهذيب المنطق) وقال المحقق التفتازاني - رحمه الله -: ((المسألة لا تكون إلا نظرية)) وهذا مما لا اختلاف فيه لأحد وما قيل من احتمال كونها غير كسبية فهو ظاهر. ثم للمسائل موضوعات ومحمولات، أما موضوعها فقد يكون موضوع العلم كقولنا:كل مقدار إما مشارك للآخر أو مبائن والمقدار موضوع علم الهيئة، وقد يكون موضوع العلم مع عرض ذاتي،كقولنا:كل مقدار وسط في النسبة فهو ضلع ما يحيط به الطرفان، فقد أخذ في المسألة المقدار مع كونه وسطا في النسبة وهو عرض ذاتي. وقد يكون نوع موضوع العلم كقولنا: كل خط يمكن تصنيفه، (1/ 81) فإن الخط نوع من المقدار. وقد يكون نوعا مع عرض ذاتي كقولنا: كل خط قام على خط فإن زاويتي جنبتيه قائمتان أو مساويتان لهما فالخط نوع من المقدار وقد أخذ في المسألة مع قيامه على خط وهو عرض ذاتي. وقد يكون عرضا ذاتيا كقولنا:كل مثلث فإن زواياه مثل القائمتين فالمثلث عرض ذاتي للمقدار وقد يكون نوع عرض ذاتي كقولنا: كل مثلث متساوي الساقين فإن زاويتي قاعدته متساويتان. وبالجملة: فموضوعات المسائل هي موضوعات العلم أو أجزاؤها أو أعراضها الذاتية أو جزئياتها. وأما محمولاتها فالأعراض الذاتية لموضوع العلم، فلا بد أن تكون خارجة عن موضوعاتها لامتناع أن يكون جزء الشيء مطلوبا بالبرهان لأن الأجزاء بينه الثبوت للشيء. كذا في (شرح الشمسية). اعلم: أن من عادة المصنفين أن يذكروا عقيب الأبواب ما شذ منها من المسائل، فتصير مسائل من أبواب متفرقة فترجم تارة بمسائل منشورة وتارة بمسائل شتى كذا في (فتح القدير) وأكثر ما يوجد ذلك في كتب الفقه. وأما المبادئ فهي التي تتوقف عليها مسائل العلم أي تتوقف على نوعها مسائل العلم أي التصديق بها، إذ لا توقف للمسألة على دليل مخصوص. وهي إما تصورات أو تصديقات. (1/ 82) أما التصورات: فهي حدود الموضوعات، أي: ما يصدق عليه موضوع العلم لا مفهوم الموضوع كالجسم الطبيعي، وحدود أجزائها كالهيولي والصورة، وحدود جزئياتها كالجسم البسيط، وحدود أعراضها الذاتية كالحركة للجسم الطبيعي. وخلاصته تصور الأطراف على وجه هو مناط للحكم. وأما التصديقات: فهي مقدمات إما بينة بنفسها وتسمى علوماً متعارفة كقولنا في علم الهندسة: المقادير المتساوية لشيء واحد متساوية. وإما غير بينة بنفسها سواء كانت مبينة هناك أو في محل آخر أو في علم آخر يتوقف عليها الأدلة المستعملة في ذلك العلم سواء كانت قياسات، أو غيرها من الاستقراء والتمثيل وحصرها في المبينة فيه والمبينة في علم آخر وفي أجزاء القياسات كما توهم محل نظر. ثم الغير البينة بنفسها إما مسلمة فيه أي في ذلك العلم على سبيل حسن الظن وتسمى أصولا موضوعة، كقولنا في علم الهندسة: لنا أن نصل بين كل نقطتين بخط مستقيم، أو مسلمة في الوقت أي: وقت الاستدلال مع استنكار وتشكك إلى أن تستبين في موضعها وتسمى مصادرات لأنه تصدر بها المسائل التي تتوقف عليها، كقولنا فيه: لنا أن نرسم على كل نقطة وبكل بعد دائرة. ونوقش في المثال بأنه لا فرق بينه وبين قولنا: لنا أن نصل الخ في قبول المتعلم بهما بحسن الظن. وأورد مثال المصادرة قول إقليدس: إذا وقع خط على خطين وكانت الزاويتان الداخلتان أقل من قائمتين فإن الخطين إذا أخرجا بتلك الجهة التقيا. لكن لا استبعاد في ذلك إذ المقدمة الواحدة قد تكون أصلا موضوعا عند شخص مصادرة عند شخص آخر(1/83). ثم الحدود والأصول الموضوعة والمصادرات يجب أن يصدر بها العلم، وأما العلوم المتعارفة فعن تصدير العلم بها غنية لظهورها، وربما تخصص العلوم المتعارفة بالصناعة إن كانت عامة، وتصدر بها في جملة المقدمات كما فعل إقليدس في كتابه. واعلم أن التصدير قد يكون بالنسبة إلى العلم نفسه بأن يقدم عليه جميع ما يحتاج إليه، وقد يكون بالنسبة إلى جزئه المحتاج لكن الأول أولى. هذا وقد تطلق المبادئ عندهم على المعنى الأعم، وهو ما يبدأ به قبل الشروع في مقاصد العلم كما يذكر في أوائل الكتب قبل الشروع في العلم لارتباطه به في الجملة، سواء كان خارجا من العلم بأن يكون من المقدمات وهي ما يكون خارجا يتوقف عليه الشروع فيه ولو على وجه البصيرة، أو على وجه كمال البصيرة ووفور الرغبة في تحصيله بحيث لا يكون عبثاً عرفاً أو في نظره كمعرفة العلم برسمه المفيد لزيادة البصيرة ومعرفة غايته، أو لم يكن خارجا عنه بل داخلا فيه بان يكون من المبادئ أعم من المقدمات أيضا فإن المقدمات خارجة عن العلم لا محالة بخلاف المبادئ والمبادئ بهذا المعنى قد تعد أيضا من أجزاء العلم تغليبا. وإن شئت تحقيق هذا فارجع إلى (شرح مختصر الأصول) وحواشيه. (1/ 84) ومنهم من فسر المقدمة بما يعين في تحصيل الفن، فتكون المقدمات أعم، كذا قيل: يعني: تكون المقدمات بهذا المعنى أعم من المبادي بالمعنى الأول لا من المبادي بالمعنى الثاني وإن اقتضاه ظاهر العبارة، إذ بينها وبين المبادئ بالمعنى الثاني هو المساواة إذ ما يستعان به في تحصيل الفن يصدق عليه أنه مما يتوقف عليه الفن إما مطلقا أو على وجه البصيرة أو على وجه كمال البصيرة. وبالجملة: فالمعتبر في المبادئ التوقف مطلقا قال السيد السند: ((مبادئ العلم ما يتوقف عليه ذات للمقصود فيه، أعني: التصورات التي يبتنى عليها إثبات مسائله وهي قد تعد جزءاً منه. وأما إذا أطلقت على ما يتوقف عليه المقصود ذاتاً أو تصوراً أو شروعاً فليست بتمامها من أجزائه، فإن تصور الشيء ومعرفة غايته خارجان عنه، ولا من جزئيات ما يتضمنه حقيقة لدخوله في العلم قطعاً)) انتهى. قالوا: الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض في صدره لأشياء قبل الشروع في المقصود يسميها قدماء الحكماء: الرؤوس الثمانية. أي: الفائدة المترتبة عليه لئلا يكون تحصيله عبثا في نظره. وهي ما يتشوقه الكل طبعاً وهي الفائدة المعتدة بها ليتحمل المشقة في تحصيله ولا يعرض له فتور في طلبه فيكون عبثاً عرفاً. هكذا في (تكلمة الحاشية الجلالية). وفي (شرح التهذيب) و (شرح إشراق الحكمة): إن المراد بالغرض هو العلة الغائية فإن ما يترتب على فعل يسمى فائدة ومنفعة وغاية، فإن كان باعثا للفاعل على صدور ذلك الفعل منه يسمى غرضا وعلة غائية، وذكراً لمنفعة إنما يجب إن وجدت لهذا العلم منفعة ومصلحة سوى الغرض الباعث وإلا فلا. وبالجملة فالمنفعة قد تكون بعينها الغرض الباعث. وهي: عنوان الكتاب ليكون عند الناظر إجمال (1/ 86) ما يفصله الغرض. كذا في (شرح إشراق الحكمة)؛ وفي (تكملة الحاشية الجلالية): السمة هي عنوان العلم، وكأن المراد منه تعريف العلم برسمه أو بيان خاصة من خواصه ليحصل للطالب علم إجمالي بمسائله ويكون له بصيرة في طلبه. وفي (شرح التهذيب): السمة العلامة، وكأن المقصود الإشارة إلى وجه تسمية العلم وفي ذكر وجه التسمية إشارة إجمالية إلى ما يفصل العلم من المقاصد. وهو: مصنف الكتاب ليركن قلب المتعلم إليه في قبول كلامه والاعتماد عليه لاختلاف ذلك باختلاف المصنفين. وأما المحققون فيعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال، ولنعم ما قيل: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال. ومن شرط المصنفين أن يحترزوا عن الزيادة على ما يجب والنقصان عما يجب، وعن استعمال الألفاظ الغريبة المشتركة، وعن رداءة الوضع وهي تقديم ما يجب تأخيره وتأخير ما يجب تقديمه. أي من اليقينيات أو الظنيات، من النظريات أو العمليات، من الشرعيات أو غيرها، ليطلب المتعلم ما تليق به المسائل المطلوبة. أي بيان مرتبته فيما بين العلوم إما باعتبار عموم موضوعه أو خصوصه، أو باعتبار توقفه على علم آخر، أو عدم توقفه عليه، أو باعتبار الأهمية أو الشرف ليقدم تحصيله على ما يجب، أو يستحسن تقديمه عليه ويؤخر تحصيله عما يجب، أو يستحسن تأخيره عنه. (1/ 87) وهي بيان أجزاء العلم وأبوابه ليطلب المتعلم في كل باب منها ما يتعلق به ولا يضيع وقته في تحصيل مطالب لا تتعلق به كما يقال:أبواب المنطق تسعة كذا وكذا. وهذا قسمة العلم وقسمة الكتاب كما يقال: كتابنا هذا مرتب على مقدمة بابين وخاتمة. وهذا الثاني كثير شائع لا يخلو عنه كتاب. وهي: أنحاء مستحسنة في طرق التعليم. وهو: التكثير من فوق إلى أسفل، أي من أعم إلى ما هو أخص كتقسيم الجنس إلى الأنواع والنوع إلى الأصناف والصنف إلى الأشخاص. وهو: عكسه أي التكثير من أسفل إلى فوق أي من أخص إلى ما هو أعم كتحليل زيد إلى الإنسان والحيوان وتحليل الإنسان إلى الحيوان والجسم. هكذا في (تكملة الحاشية الجلالية) و (شرح إشراق الحكمة) وفي (شرح التهذيب) كان المراد من التقسيم ما يسمى بتركيب القياس، وذلك بأن يقال: إذا أردت تحصيل مطلب من المطالب التصديقية فضع طرفي المطلوب واطلب جميع موضوعات كل واحد منهما وجميع محمولات كل واحد منهما؛ سواء كان حمل الطرفين عليها أو حملها على الطرفين بواسطة أو بغير واسطة. وكذلك اطلب جميع ما سلب عنه الطرفان أو سلب هو عن الطرفين. ثم انظر إلى نسبة الطرفين إلى الموضوعات والمحمولات، فإن وجدت من محمولات موضوع المطلوب ما هو موضوع المحمول فقد حصل المطلوب من الشكل الأول، أو ما هو محمول على محموله فمن الشكل الثاني، أو من موضوعات موضوعه ما هو موضوع لمحموله فمن الشكل الثالث، (1/ 88) أو محمول لمحموله فمن الرابع. كل ذلك بحسب تعدد اعتبار الشرائط بحسب الكيفية والكمية والجهة. كذا في (شرح المطالع) فمعنى قولهم:وهو التكثير من فوق، أي من النتيجة لأنها المقصود الأقصى بالنسبة إلى الدليل. وأما التحليل فقد قيل في (شرح المطالع) ((كثيراً ما تورد في العلوم قياسات منتجة للمطالب لا على الهيئات المنطقية اعتماداً على الفطن العارف بالقواعد. فإن أردت أن تعرف أنه على أي شكل من الأشكال فعليك بالتحليل وهو عكس التركيب فحصل المطلوب. فانظر إلى القياس المنتج له فإن كان فيه مقدمة يشاركها المطلوب بكلا جزئيه فالقياس استثنائي. وإن كانت مشاركة للمطلوب بأحد جزئيه فالقياس اقتراني. ثم انظر إلى طرفي المطلوب فتتميز عندك الصغرى عن الكبرى فإن ذلك الجزء إن كان محكوما عليه في النتيجة فهي الصغرى أو محكوما به فهي الكبرى. ثم ضم الجزء الآخر من المطلوب إلى الجزء الآخر من تلك المقدمة، فإن تألفا على أحد التأليفات الأربع فما انضم إلى جزئي المطلوب هو الحد الأوسط وتتميز لك المقدمات والأشكال، وإن لم يتألفا كان القياس مركبا فاعمل بكل واحد منهما العمل المذكور أي ضع الجزء الآخر من المطلوب والجزء الآخر من المقدمة كما وضعت طرفي المطلوب أولا أي في التقسيم، فلا بد أن يكون لكل منهما نسبة إلى شيء ما في القياس وإلا لم يكن القياس منتجا للمطلوب. فإن وجدت حداً مشتركاً بينهما فقد تم القياس، وإلا فكذا تفعل مرة بعد أخرى إلى أن ينتهي إلى القياس المنتج للمطلوب بالذات وتتبين لك المقدمات والشكل والنتيجة. فقولهم:التكثير من أسفل إلى فوق أي إلى النتيجة)). انتهى. أي فعل الحد أي إيراد حد الشيء، وهو (1/ 89) ما يدل على الشيء دلالة مفصلة بما به قوامه، بخلاف الرسم فإنه يدل عليه دلالة مجملة. كذا في(شرح إشراق الحكمة)وفي(شرح التهذيب) كان المراد بالحد المعرف مطلقا وذلك بأن يقال:إذا أردت تعريف شيء فلا بد أن تضع ذلك الشيء وتطلب جميع ما هو أعم منه وتحمل عليه بواسطة أو بغيرها، وتميز الذاتيات عن العرضيات بأن تعد ما هو بين الثبوت أو ما يلزم من مجرد ارتفاعه ارتفاع نفس الماهية ذاتيا وما ليس كذلك عرضيا. وتطلب جميع ما هو مساو له فيتميز عندك الجنس من العرض العام والفصل من الخاصة. ثم تركب أي قسم شئت من أقسام المعرف بعد اعتبار الشرائط المذكورة في باب المعرف. أي الطريق إلى الوقوف على الحق أي اليقين إن كان المطلوب نظرياً، وإلى الوقوف عليه والعمل به إن كان عملياً،كأن يقال:إذا أردت الوصول إلى اليقين فلا بد أن تستعمل في الدليل بعد محافظة شرائط صحة الصورة. أما الضروريات الست أو ما يحصل منها بصورة صحيحة وهيئة منتجة وتبالغ في التفحص عن ذلك حتى لا يشتبه بالمشهورات والمسلمات والمشبهات وغيرها بعضها ببعض، وعد الأنحاء التعليمية بالمقاصد أشبه، فينبغي أن تذكر في المقاصد. ولذ ترى المتأخرين كصاحب (المطالع) يعدون ما سوى التحديد من مباحث الحجة ولو أحق القياس. وأما التحديد فشأنه أن يذكر في مباحث المعرف. كذا في (شرح التهذيب). واعلم أنهم إنما اقتصروا على هذه الثمانية لعدم وجدانهم شيئا آخر يعين في تحصيل الفن، ومن وجد لك فليضمه إليها. وهذا أمر استحساني لا يلزم من تركه فساد على مالا يخفى، هكذا في(تكملة الحاشية الجلالية)(1/ 90). واعلم أنهم قد يذكرون وجه الحاجة إلى العلم، ولا شك أنه ههنا بعينه بيان الغرض منه. وقد يذكرون وجه شرف العلم ويقولون:شرف الصناعة إما بشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدباغة. فإن موضوع الصياغة الذهب والفضة وهما أشرف من موضوع الدباغة التي هي الجلد. وإما بشرف غرضها مثل صناعة الطب فإنها أشرف من صناعة الكناسة لأن غرض الطب إفادة الصحة وغرض الكناسة تنظيف المستراح. وإما بشدة الحاجة إليها كالفقه فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب إذ ما من واقعة في الكون إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، إذ به انتظام صلاح الدنيا والدين. بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات. والمراد بذلك بيان مرتبة العلم على ما يفهم مما سبق ويؤيده ما قال السيد السند في (شرح المواقف) وأما مرتبة علم الكلام أي شرفه فقد عرفت أن موضوعه أعم الأمور وأعلاها... الخ. وفيه: إعلامات واكتفيت مما ورد فيه من الآيات والأخبار بالقليل لشهرته وقوة الدليل. قال الله تعالى: وقال: وقال: وقال: وقال: وقال: وقال: وقال: وقال: وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الأخلاء، يرفع الله تعالى به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفى آثارهم ويقتدي بفعالهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلي في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، هو إمام والعمل تابعه، (1/ 93) ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء). أورده ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم) بإسناده وقال: هو حديث حسن جداً وفي إسناده ضعف. وروي أيضا من طرق شتى موقوفاً على معاذ. وقد يقال:الموقوف في مثل هذا كالمرفوع فإن مثله لا يقال بالرأي. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. وعنه رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) رواه مسلم. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي. (1/ 94) وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الخير). رواه الترمذي. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً) رواه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها). رواه الترمذي وقال:غريب. وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث، ورواه ابن ماجة. والمراد بالحكمة في هذا الحديث السنة دون الحكمة اليونانية بدليل قوله سبحانه: وقد سافر أهل الحديث -كثر الله تعالى سوادهم - في طلبها إلى أقطار الأرض وكانوا أحق بها وأهلها حيث وجدوها بعد الفحص الكثير والبحث الشديد في بلاد شاسعة ومدائن بعيدة، فجمعوها في دواوين الإسلام وامتثلوا قوله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. فجزاهم الله تعالى عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 95): (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد). رواه الترمذي وابن ماجة. والمراد بالفقه في هذا الحديث وغيره: فهم الكتاب والسنة دون الفقه المصطلح اليوم. وعن أنس رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ). رواه ابن ماجة، ورواه البيهقي في (شعب الإيمان) إلى قوله (مسلم) وقال:هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف. وقد روي من أوجه كلها ضعيف. وعن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع). رواه الترمذي والدارمي. وعن سخبرة الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من طلب العلم كان كفارة لما مضى). رواه الترمذي والدارمي، وقال الترمذي:هذا حديث ضعيف الإسناد وأبو داود الراوي يضعف. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة) رواه الترمذي. والمراد بالخير: العلم. وفيه أن زمان الطلب من المهد إلى اللحد، وأن عاقبة طلب العلم الجنة. وهذه بشارة وأي بشارة لمن يعلم أو يتعلم. جعلنا الله من أهليه وحشرنا في زمرة ذويه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة). -يعني ريحها- رواه أحمد (1/ 96) وأبو داود وابن ماجة. وإذا كان هذا القضاء في حق طالب العلم المحمود فما ظنك بطالب العلم المذموم من علوم اليونان. وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). رواه البيهقي في كتاب (المدخل) مرسلاً. وعن الحسن مرسلا قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة). رواه الدارمي. اللهم إنك تعلم بطلبي العلم من بدء الشعور إلى هذه الغاية وسأطلبه إن شاء الله تعالى إلى آخر العمر والنهاية. وما مرادي به إلا إحياء السنة المطهرة وإماتة البدعة، وهداية المتعلمين ونصيحة المسلمين، وإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين. وأنا سمي خليفة رسولك أبي بكر الصديق رضي الله عنه والدرجة الصديقية تلو الدرجة النبوية، فصدقني في هذا الرجاء وأوصلني إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين. وقد أحببت رسولك وأصحابه وأئمة السلف وأهل الحق من الخلف الذين قالوا بقول رسولك ولم يشركوا ولم يبدعوا، فاحشرني معهم واجعلني في جوارهم في دار النعيم، والمرء مع من أحب وإن لم يعمل عمله ولم يجهد جهده في الطاعة. اللهم آمين. وعن علي رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل الفقيه في الدين -أي العالم بالكتاب والسنة -إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه). رواه رزين. (1/ 97) وعن واثلة بن الأسقع قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من طلب العلم فأدركه كان له كفلان من الأجر فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر) رواه الدارمي. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم سهلت له طريق الجنة، وفضل في علم خير من فضل في عبادة، وملاك الدين الورع). رواه البيهقي في (شعب الإيمان). وعن ابن عباس قال:(تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائه). رواه الدارمي. وفي حديث ابن عمرو مرفوعاً: (إنما بعثت معلماً). رواه الدارمي. وعن الأعمش مرفوعاً: (آفة العلم النسيان). رواه الدارمي مرسلاً. والأخبار والآثار في شرف العلم وفضل العالم والمعلم والمتعلم وطالب العلم كثيرة جداً لا يسعها هذا المقام. وقد ألف الحافظ الإمام الحجة هادي الناس إلى المحجة محمد بن أبي بكر القيم كتابه (مفتاح دار السعادة) في مجلدين في فضائل العلم وما يليها، وهو كتاب نفيس عزيز المقاصد منّ الله تعالى به عليّ وأحسن إليّ. والمراد بالعلم في الأحاديث المذكورة علم الدين والشرع المبين، (1/98) وهو علم الكتاب العزيز والسنة المطهرة لا ثالث لهما. وليس المراد به العلوم المستحدثة في العالم قديمه وجديده التي اعتنى الناس بها في هذه الأزمان، وخاضوا فيها خوضاً منعهم عن النظر في علوم الإيمان وأشغلهم عن الاشتغال بمراد الله تعالى ورسوله سيد الإنس والجان، حتى صار علم القرآن مهجوراً وعلم الحديث مغموراً، وظهرت صنائع أقوام الكفر والإلحاد، وسميت بالعلوم والفنون والكمال المستجاد، وهي كل يوم في ازدياد، فإنا لله وإنا إليه راجعون. هذا وقد تكفل كتاباي (الحطة بذكر الصحاح الستة) و (الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة) ببيان فضيلة علم السنة فإن شئت الزيادة على هذا المقدار فارجع إليهما يزيدانك بصيرة كاملة في هذا الباب والله أعلم بالصواب. وقال الشافعي:(من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح، ومن رفع عنه حزن) قال الأحنف: (كل عز ولم يؤيد بعلم فإلى ذل مصيره). ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت فيه، فمنه ما هو بحسب الموضوع كالطب فإن موضوعه بدن الإنسان. والتفسير فإن موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى ولا خفاء في شرفهما. ومنه ما هو بسحب الغاية كعلم الأخلاق فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية.ومنه ما هو بحسب الحاجة إليه كالفقه فإن الحاجة إليه ماسة.ومنه ما هو بحسب وثاقه الحجة كالعلوم الرياضية فإنها برهانية. (1/ 99) ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه العبارات فيه أو أكثرها كالعلم الإلهي فإن موضوعه شريف وغايته فاضلة والحاجة إليه ماسة. وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر باعتبار ثمرته أو وثاقة دلائله أو غايته. ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة، فأشرف العلوم ثمرة العلم بالله سبحانه وتعالى وملائكته ورسله وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية. (1/ 100) الإعلام الثاني في كون العلم ألذ الأشياء وأنفعها وفيه: تعليمات اعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره، والعلم حائز الشرفين جميعا لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته، لذيذ لغيره فيطلب لأجله. أما الأول: فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة، وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة، كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع، ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء. بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية. ولهذا كان الإمام الثاني محمد بن الحسن الشيباني يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: ((أين أبناء الملوك من هذه اللذة)) سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت، ومن لذته التابعة لعزته أنه لا يقبل العزل والنصب مع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد، لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء. (1/ 101) ومع هذا لا ترى أحداً من الولاة الجهال إلا يتمنون أن يكون عزهم كعز أهل العلم، إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله. وأما اللذائذ الحاصلة لغيره: أما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية والسعادة الأبدية، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل أيضا إلا بالعلم بكيفية العمل. فأصل سعادة الدارين هو العلم فهو إذاً أفضل الأعمال. وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك، ولزوم الاحترام في الطباع، فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب وأراذل العجم يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم، لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة. بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها لشعورها بتمييز الإنسان بكل مجاوز لدرجتها، حتى إنها تنـزجر بزجره وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان. اعلم: أن السعادة منحصرة في قسمين: جلب المنافع، ودفع المضار، وكل منهما دنيوي وديني، فالأقسام أربعة: الأول: هو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية وهو خفي وخلقي. أشار إلى نفعه الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: (فإن تعلمه لله خشية إلى آخره). وإلى نفعه الثاني قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة). الثاني: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية وهو وجداني وذوقي وجاهي رتبي، والوجداني: إما راحة أو استيلاء، والراحة إما (1/ 102) من مشقة وجود ظاهر للنفس أو من فقد سار لها بالأنس. وكل منهما إما خارجي وإما ذاتي.فالراحة أربعة أقسام: وقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو الأنيس في الوحشة) إشارة إلى الأول لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب. وقوله: (والصاحب في الغربة) إشارة إلى الثاني فانه يقر من الغريب عينه، ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها، لفقد سرور الأهل والوطن. وقوله: (والمحدث في الخلوة) إشارة إلى الثالث، لأن العلم يريح المنفرد عن الناس بتحديثه من انقباض الفهم وخموده، وهو ألم ذاتي لأهل الكمال، وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة. وقوله: (الدليل على السراء والضراء) أي في الماضي والآتي إشارة إلى الرابع الذي هو فقد سار ذاتي، أي أن العلوم تقوم مقام الرأي السديد إذا استبشر، إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها وعلى الضراء وموجباتها فالحيرة، وجهل عواقب الأمور مؤلم للنفس لفقد نور البصيرة، فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان. والاستيلاء قسمان: أحدهما: استيلاء يمحق الشر ويدفع الضر وإليه أشار قوله: (والسلاح على الأعداء) فبالعلم يزهق الباطل، وتندفع الشبهة والجهالة. قيل: لبعض المناظرين فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر إيضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا. وثانيهما:استيلاء يجلب الخير ويذهب الضر وإليه أشار قوله:(1/ 103) ((والزين عند الأخلاء)) أي أن العلم جمال وحسن وكمال يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل: العلم زين وكنز لا نفاد له ** نعم القرين إذا ما عاقلا صحب القسم الثاني: ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة، وهي إما عند الله سبحانه وتعالى، وإما عند الملأ الأعلى، وإما عند الملأ الأسفل. الأول: أشار إليه قوله: ((يرفع الله سبحانه وتعالى به أقواما)) أي يعلي مقامهم ورتبتهم، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، أي شرفاء الناس وسادتهم، والقادة جمع قائد، وهو الذي يجذب إلى الخير، إما مع الإلزام، كالقاضي والوالي اللذين إلزامهما على الظاهر، وكالخطيب والواعظ اللذين إلزامهما على الباطن، وكالأئمة الذين بعلمهم يهتدي وبحالهم يقتدي. والثاني: أشار إليه قوله: (ترغب الملائكة في خلتهم) أي لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم ما استولى على غيوب بواطنهم، فرغبوا في محبتهم، وأنسوا بملازمتهم، وما استولى على ظواهرهم فيتبركون بمسحهم. والثالث: أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((يستغفر لهم كل رطب ويابس)) فشمل الناطق والنافس. قيل: سبب استغفار هؤلاء رجوع أحكامهم إليه في صدهم وقتلهم وحلهم وحرمتهم. القسم الثالث: ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية، وهو أيضا نوعان: الأول: جلب المصالح والمقاصد، ودفع المعائب والمفاسد وإليه. (1/ 104) أشار قوله صلى الله عليه وسلم: ((به توصل الأرحام)) أي بالعلم توصل الأرحام بين الأنام، وتدفع مضرة القطيعة وحقدهم وحسدهم ومحاربتهم. والثاني: مضرة اجتلاب المفساد برفض القانون الشرعي العاصم. من كل ضلال، وإليه أشار قوله صلى الله عليه وسلم: ((وبه يعرف الحلال والحرام)) أي بالعلم يتبين أحدهما من الآخر، وهو أساس جميع الخيرات فتأمل في بيان منافع العلم، وكيفية جوامع الكلم، وأكثر الصلاة على صاحبه عليه الصلاة والسلام. الإعلام الثالث في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموما اعلم: أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار، ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع. لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني، وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع، لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء، فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه. فمن الوجوه المغلطة، أن يظن بالعلم فوق غايته، كما يظن بالطب أنه يبرئ من جميع الأمراض، وليس كذلك فإن منها مالا يبرأ بالمعالجة. ومنها: أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف، كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق، وليس كذلك فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا. ومنها: أن يقصد بالعلم غير غايته، كمن يتعلم علما للمال أو الجاه، فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق، على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما، إنما جاء شبيها بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم (1/ 106) بناء المدارس ببغداد، أقاموا مأتم العلم، وقالوا: (كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه، والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل، فيكون سببا لارتفاعه، ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها. ومنها: أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله، كما اتفق في علم الطب، فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة، فصار مهانا لما تعاطاه اليهود، فلم يشرفوا به بل زال العلم بهم. وما أحسن قول أفلاطون: (إن الفضيلة تستحيل في النفس، الردية رذيلة، كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد). ومن هذا القبيل الحال في علم أحكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به، للملوك ونحوهم، فرذل حتى صار لا يتعطاها غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه. ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال، رفيع المرقى، قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله، لينال بتمويهه عرضا، كما اتفق في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات. والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم، فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده. ومنها: ذم جاهل متعالم لجهله إياه، فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه، كما قيل: المرء عدو لما جهله. أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب، فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق، مع كونه ميزان العلوم، وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء، وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين، غير المسائل اليسيرة التي (1/ 107) أوردها (أصحاب التهافت) وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشباه، فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل، وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به، فمن رآه كان المناسب أن ينقل. وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به، فمن قبيل سد الذرائع، وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع. ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه، تخليص أصحاب العقول القاصرة، من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة، فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة، وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه على زعمهم، فإنه لا يخلو تحصيله عن فائدة، أقلها رد القائلين به قال الغزالي في (الإحياء): ((إن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة. الأول: أن يكون مؤديا إلى ضرر ما، إما لصاحبه أو لغيره، كما يذم علم السحر والطلسمات، وهو حق إذ شهد القرآن له. الثاني: أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم. الثالث: الخوض في علم لا يستقل الخائض فيه، فإنه مذموم في حقه، كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها، وخفيها قبل جليها، وكالبحث عن الأسرار الإلهية..))إلى آخر ما قال وأطال في بيان هذه الأسباب الثلاثة، فإن شئت الزيادة فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما. (1/ 108) الإعلام الرابع في مراتب العلوم من التعليم ولا يخفى أن يقدم الأهم فالأهم فيه، والوسيلة مقدمة على المقصد، كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية، لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني. ويقدم الأدب على المنطق ثم هما على أصول الفقه. ثم هو على الخلاف والتحقيق أن تقديم العلم على العلم لثلاثة أمور: إما لكونه أهم منه، كتقديم فرض العين على فرض الكفاية، وهو على المندوب إليه، وهو على المباح. وإما لكونه وسيلة إليه، كما سبق فيقدم النحو على المنطق. وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر، والجزء مقدم على الكل، فيقدم الصرف على النحو. وربما يقدم علم على علم، لا لشيء منها بل لفرض التمرين على إدراك المعقولات، كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب. وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون، ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو على الصرف، ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس. ثم إنه تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه، بحسب خلو الأعصاب (1/ 109) والأمصار من العلماء، فرب مصر لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان، ويوجد فيه عشرون فقيها، فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه. واعلم أن الواجب علمه هو فرض عين، وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه، وما أوجبه على المجموع ليعملوا به لو قام به واحد لسقط عن الباقين ويسمى فرض كفاية. والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات، ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه. وإزالة الشبهة، ومعرفة الأوقات والفرائض والأحكام الفرعية، وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة، وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان. وكالمنطق وتسيير الكواكب ومعرفة الأنساب والحساب إلى غير ذلك من العوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد. وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها. في هذا الباب كتاب (أدب الطلب) لشيخنا العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني- رحمه الله - أبان فيه طريق العلم والتدرج فيه، وهو كتاب لم يؤلف قبله مثله وإنه نفيس جدا. الإعلام الخامس في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبتني عليه ما يحصل بعد من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبتني عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب: فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة. وهذا (1/ 111) مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلس: فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب. ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم. وأما أهل إفريقية: فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس، لأن سند طريقتهم في (1/ 112) ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها، والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطون بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة. ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة، وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام. وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه. وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها، فكانوا (1/ 113) لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا. ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب (رحلته) إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس: قال لأن الشعر ديوان العرب. ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة. ثم قال: ((ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه)). قال: ((ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه)). ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجوده الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال، ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثاراً للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن، فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة، (1/ 114) فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلواً منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق، ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه)). وهو أحكم الحاكمين. الإعلام السادس في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس عاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به، وتجد ذلك فيهم استقراء وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج، ومعناه في الاصطلاح المشهور: التخابث والكيد، وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين (1/ 116) والمتعلمين: ((لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً)) ومن كلام عمر رضي الله عنه: ((من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله)) حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له، فإنه أعلم بمصلحته. ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: ((يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة)) والله أعلم (1/ 117). الإعلام السابع في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، ويلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من (1/ 118) العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصواباً، فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله. ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها، فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن، وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات، وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له، كلّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم. ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره، لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم. وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء. وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن (1/ 119) بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطاً وأقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره. وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون. ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معاً فإنه قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معاً ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. قف: اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك، فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة. وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها، وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته، وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ، تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب، وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته. فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحداً، وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعدداً، ويصير إلى الظفر بمطلوبه. هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه، لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً إلا أنه (1/ 120) قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج، فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذاً أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها. ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر، ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق، ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى، ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم، وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأولاً: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها. ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة. ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه. وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات، وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب (1/ 121) بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الأمر الصناعي جملة، واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه، وسرح نظرك فيه، وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعاً لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك، مستعرضاً للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك، وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا؛ فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي، ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان. وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها، إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع، فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب، وتقعد بالناظر، عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه. ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع، فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها. ولا يكاد يخلص منها، والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى. وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة (1/ 122) الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب، والله الهادي إلى رحمته، وما العلم إلا من عند الله تعالى)). قف: ((اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة. وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين. فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار. فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة. وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل، لأن ذلك مخرج لها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير، فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم، والعمر يقصر عن (1/ 123) تحصيل الجميع على هذه الصورة. فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه، لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها، وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد، وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة، فهي من نوع اللغو، وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها. فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد، فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده، فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعباً أو سهلاً، وكل ميسر لما خلق له)).
|